يستمتع السواد الأعظم من عشاق كرة القدم في كافة أرجاء المعمورة بمشاهدة
ومتابعة الكرة الأوروبية على وجه خاص , فهي علاوة على اتضباطيتها الكبيرة
و لعبها التكتيكي الراقي , تعد قبلة لألمع وأبرز مواهب العالم في هذه اللعبة سواء
كانوا من امريكا الجنوبية أو افريقيا وباقي القارات وبطبيعة الحال من كافة
ارجاء القارة العجوز نفسها من اقاصي البرتغال غرباً وحتى
دول بحر قزوين شرقاً .
ومع عدم اغفال أن كرة القدم ازدهرت وربما نشأت أصلاً في اوروبا , فهي تتساوى
مع قارة أمريكا الجنوبية من حيث عدد مرات الفوز بالبطولة الأغلى عالمياً في هذه
اللعبة .
وقد اشتهرت أوروبا أيضاً بمدارسها وطرقها الكروية الفريدة من نوعها , فعطفاً
على المدرسة الهولندية الأمتع والأجمل , هنالك المدرسة الانجليزية , وهناك
الايطالية , وهناك الألمانية وغيرها من الطرق و الاساليب الكروية التي تعتبر
سمة مميزة لأصحابها كلُ على حدة .
العديد من عشاق ومتابعي الكرة الأوروبية يجمعون ربما على القول في أن بطولة
أمم أوروبا للمنتخبات ودوري ابطال أوروبا للأندية وبعض الدوريات البارزة
اوروبياً تكاد تقهر جمال ورونق وشغف كأس العالم , لما تحتويه هذه البطولات
من ندية كبيرة ومنافسة مشتعلة ومتعة كبيرة حاضرة !
ولكن الكرة الأوروبية في السنوات القليلة الماضية ومع مرور السنوات في
القرن الحادي والعشرين أخذت شيئا فشيئا تتغير الى الأسوأ ان صح التعبير
بسبب اقتصار المنافسة على فريقين بعينهم في كل بلد و 4 فرق او ربما 5
في اوروبا على لقب دوري الأبطال , وأسهم في ذلك التغيرات الاقتصادية
التي شهدتها اللعبة من اقحام المال والتجارة نفسها في عالم المستديرة
حتى صارت الاعلانات التجارية و البيع والشراء جزئاً لا يتجزا
من لعبة وجدت اساساً للمتعة قليلة التكلفة شبه المجانية !
ما سبق ذكره تمخض عنه اضمحلال للعديد من الفرق واختفاء فرق أخرى
عن الخارطة الأوروبية بعد ان كان لها باع فيها , ففي ايطاليا مثلا فرق
مثل لاتسيو وبارما كان لها اسم من ذهب ومجرد التفكير في مواجهتهم
يسبب رعباً للخصوم , لكن اليوم الكرة الايطالية اختزلت في اسمين
وربما واحد وبشكل أوضح في مدينة واحدة هي مدينة الموضة ,
مدينة ميلانو !
أسبانيا لا تختلف كثيراً عن ايطاليا ففرق مثل سوسيداد و ديبورتيفو
لاكورنيا و مايوركا لم تكن حاضرة من أجل اداء الواجب في الماضي بل
كانت تشاكس وتنافس وتحقق الليغا وتتأهل لدوري الأبطال وترفع رأس
اسبانيا عالياً ليس كما هو الحال الان حيث اختزلت الليغا بمباراتين بين
غريمين "البارسا و الريال " في الكلاسيكو !
وعلى الرغم من كون انغلترا تتمتع بصحة وعافية أفضل نوعاً ما لاتساع
نطاق المنافسة الا أن الندية تكاد تقتصر على رقعة شطرنج البريميرليغ
بين الاربعة الكبار أو كما يحلو للانجليز تسميتهم بـ البيغ فور
" مانشستر يونايتد وتشلسي و ارسنال و ليفربول " الا أن فرقاً
من داخل هذا الحزب الضيق غابت ايضاً على المنافسة وأعني هنا
اخر فريقين بالقائمة , علاوة على فرق بحجم طيب الذكر ليدز يونايتد
و نيوكاسل مثلاً لا حصراً , كلها فرق غمرتها أموال الخصوم الأثرياء
, وفي كرة القدم باتوا يقولون :
اذا ضاع المال ضاع التنافس !
ألمانيا و فرنسا و البرتغال و هولندا ليسوا بمنئى أيضاً عن آفة الكرة
الأوروبية , فالبوندزليغا كدنا أن نسميها دوري بايرن موينيخ من كثرة
فوزه بها واحتكاره لها وفرق عريقة مثل دورتموند و هامبورغ أصبحت
مطية لفرق الدوري الألماني المحتكر من الفرق القوية اقتصادياً والقادرة
على جلب النجوم !
أما فرنسا فلا يخفى على أحد احتكار ليون للبطولة في القرن الحادي
والعشرين لدرجة انه كان لا ينافس الا نفسه فقط , حتى ضاعت هوية
فرق عريقة وقوية بحجم موناكو ومارسيليا و بورودو ونانت !
اما في البرتغال فايام بوافيستا وسبورتغ ليزبون كانت ايام , قبل أن يقشعها
بورتو بسلسلة القابه الاحتكارية المتتالية التي حققها طبعاً بكل جدارة واستحقاق
و التي ربما نغصها على استحياء قليلاً بنفيكا !
وفي هولندا بعد أن اصبح اياكس لوحده يساوي المدرسة الهولندية في ظل
منافسة ايندهوفين غابت فرق كبيرة عن ساحة التنافس وصارت من فرق
وسط الترتيب بعد ان كانت تؤرق مضاجع كبار هولندا وانا اتحدث هنا بالطبع
عن فريق فينورد روتردام العريق !
حتى دوري ابطال أوروبا صار في عصر كرة القدم الحديثة يتنقل بين 4
فرق هي ريال مدريد ومانشستر يونايتد و برشلونة و ميلان رغم ابتعاد
الأول عن تحقيق اللقب منذ العام 2002 !
حتى المنافسة بين الكبار صار فيها ضرر لمشاهد كرة القدم فتجد ريال مدريد
او برشلونة محلياً يحسمون المنافسة بينهم مبكراً وكذا في ايطاليا وغيرها !
في الماضي القريب لم يكن في اوروبا شيئ اسمه كبار وصغار , كانت كل
المباريات مهمة في البطولات المحلية و الخارجية وكلها كانت صعبة , لكن الكرة
أخذت شيئاً فشيئاً تتحول الى كرة : من يمتلك نجوماً أكثر ويدفع أكثر يكسب !
ربما عشاق مانشستر لا يكترثون الان لمواجهة فرق كـ ايفرتون و وستهام
لأن فريقهم يفوز بثلاثيات وخماسيات بسهولة عليهم لكن ربما في الماضي
كان الفوز يأتي بفارق هدف وبصعوبة حينها سيكون للفوز طعم رائع , لا
سيما في ظل وجود الندية والشعور بالمنافس !
ولكن لأن كل جواد كبوة و لكل رجل زلة فلا بد من بعد الكبوة من نهوض ومن
بعد الزلة تصحيح , فـ بدأت أوروبا الآن رودياً رويداً تستعيد عافيتها !
دوري أبطال أوروبا هذا العام نجد فيه فرق كـ سسكا موسكو و بوردو وليون تصعد
الى قائمة الثمانية الكبار في ظل احياء الماضي الجميل و الوردي من قبل
بايرن ميونيخ !
الكثيرون قد ينظروا الى هذا الأمر من منظور سلبي ويستدلون على هذا الشأهد
بأن الكرة الأوروبية ضعيفة , وأنها في أزمة لكن وعلى النقيض أعتقد أن
العكس هو ما يحدث !
لماذا دائماً أمريكا و روسيا و اسرائيل يحكمون العالم مثلاً , لماذا لا يدخل الفسطاط
الايراني والتركي و الصيني الى المعترك ويبرزوا في الواجهة من جديد , بل لماذا
لا يعود المسلمون الى قيمتهم العالمية القديمة , طالما يمتلك كل منهم الارادة والقدرة
على ذلك ولا تشبيه طبعاً مع حديثنا في كرة القدم , لكنه استشهاد توضيحي
لا أكثر ولا أقل !
أعتقد أن عصر الكبير كبير والصغير صغير بدأ يزول في كلمناحي الحياة ,
السياسية و العسكرية بل وحتى الرياضية , وصرنا الان بعصر المنطق القائل :
لكل مجتهد نصيب !
ولو عرجنا بشكل سريع على الدوريات الأوروبية هذا الموسم للتدليل على عودة
هذا المنطق قليلاً لوجدنا ما يدعم هذه الصحوة الأوروبية , ففي اسبانيا عاد
مايوركا للمربع الذهبي لليغا , ونجد فرق كديبورتيفو و اشبيلية وبلباو
لا يكاد يفصلها سوى بضع انتصارات لدخول مربع القمة , في ظل
اشتعال المنافسة بشكل غير مسبوق بين الريال وبرشلونة الذين
يتساوون في النقاط ولا يفصل بينهم الا الأهداف فقط ويتبقى
بيهم تصفية حساب عسير في اياب الكلاسيكو !
وفي انجلترا بين الثالث ارسنال والثاني تشلسي 3 نقاط فقط وبين الثاني
والأول مانشستر نقطتان في ظل عودة توتنهام والمان سيتي واستون فيلا
لرقعة التنافس من جديد !
اما ايطاليا فبعد سنوات من احتكار الروزونيري للكالتشيو تكاد تتفجر المنافسة
حيث يفصل ذئاب روما و الغريم ميلان عن الانتر نقطة واحدة فقط , ولا
نغفل باليرمو وسامبدوريا و نابولي الذي يقتربون من بعيد لاقتطاع
نصيب من الكعكة !
في المانيا التنافس مشتعل بين شالك و بايرن و ليفركوزن بعد موسم
حقق فيه فولفسبورغ في اللقب ظل سعي دورتمومند وبريمن وهامبورغ
لاقتناص مقعد اوروبي ثمين , و هناك في فرنسا 6 فرق لا يفصل بينها
لتزيح بعضها البعض في الصدارة الا 5 نقاط فقط , في دوري هو الأقوى
اوروبيا هذا الموسم والأكثر اثارة , وفي هولندا يعود تفنتي انشخيدة
ويواصل الكمار و فينورد الصحوة و في البرتغال نجد فرق كسبورتينغ
براغا تتفوق على بورتو المدجج بالنجوم والمالك للمال .. الخ من
تغيرات على الخارطة الأوروبية في هذا الموسم الجميل !
كل هذا يدعنا نخلص الى نتيجة مفادها أن كرة القدم حتى لو استمرت
لفترة من الوقت محكومة بالمال والقدرة على جلب النجوم واحتكار التنافس ,
فان هذا لا يعني أن تقطع باقي الفرق الأمل في التنافس وكسب الألقاب ,
و اذا كنا نحب ريال مدريد والبارسا و ميلان وانتر و مانشستر وغيرهم
من العمالقة , فان هذا لا يمنعنا من رفع القبعة اجلالا واكباراً لهذه الفرق
المكافحة التي تحفر الصخر بأظفارها المدمية نحو تحقيق الهدف الأسمى
في عالم كرة القدم .. الا وهو :
تحقيق الانتصار !
الجميع يكتم أنفاسه الآن , ويتابع بترقب وشغف ما يحدث في كافة أرجاء
القارة العجوز , وبيوت الرهان التي لطالما راهنت على جواد واحد او
جوادين , باتت الان مضطربة لا تعلم أين هو رابح هذا السباق المحموم !
فهل تستمر أوروبا منتفضة ومشتعلة أم أن هذا اللهب لن يلبث الا أن يخبو
وينطفئ تحت وطأة الدولارات واليوروهات .. أسئلة لن يجاب عنها في
نهاية هذا الموسم , بل ان عدة مواسم قطعاً ستكون كفيلة بالاجابة على
هذا الموضوع , اجابة انتظرها وينتظرها عشاق الكرة الأوروبية واتمنى
أن تكون الاجابة بنعم !
